في نعيم الجهل – مقال للدكتور احمد خالد توفيق
نُشر في جريدة التحرير - بتاريخ 17 يناير 2016
للخال عبد الرحمن الأبنودي قصيدة شهيرة جدًا اسمها
(أحزان عادية) لكن المقطع الذي أعنيه يقع عند 7:20 دقيقة. ويقول فيه المقطع
العبقري: "ربنا مديه جهل غانيه عن كل العلم".
هذا هو باختصار شديد تأثير (دوننج – كروجر)
تم وصف هذا التفسير عام 1999 في دراسة قام بها عالمان نفسيان في جامعة كورنيل بنيويورك، وبرغم قصر الدراسة فإنهما نالا جائزة نوبل بعد ذلك. العالمان هما ديفيد دوننج وجوستين كروجر. وكان هذا بعد ما ضبط مجرم مصارف اسمه ويلر.. هذا اللص بلغ درجة خارقة من الغباء، إذ قام بسرقة المصرف بعد دهان وجهه بالليمون. الفكرة هنا – كما خطر له – أن الليمون يستخدم في الحبر السري، لذا فإن دهان الوجه به يجعلك شفافًا!.
قام العالمان بدراسة عن الغباء لدى البشر،
وقد وجدا أن الأشخاص الأغبياء الذين لا يتقنون مهارة معينة، لا يدركون مدى افتقارهم
للمهارة ولا يدركون مدى جهلهم، ولا يميزون المهارة لدى الآخرين، ويدركون افتقارهم لتلك
المهارة فقط بعد ما يتم تدريبهم جيدًا عليها.
أذكر أن ابني في سن الخامسة كان يؤكد في
ثقة أنه قادر على قيادة غواصة. كنت أسأله كيف يقود الغواصة فيثب في الهواء ويقول (تس!).
هذا الغرور مقبول – بل مستحب – من طفل في الخامسة، والمهم ألا ينمو معنا هذا الشعور،
لترى رجلاً في الأربعين يعتقد أنه يستطيع قيادة غواصة لو قال (تس) !
قال العالمان إن الأمر يشبه الشخص الذي يعاني خللاً في المخ، وهذا الخلل يجعله عاجزًا عن إدراك خلل وجود خلل. عجزك يفقدك القدرة على أن تدرك عجزك. المثال الذي يحضرني هو عندما يحدث حرق من الدرجة الثالثة. يتفحم الجلد ومعه الأعصاب.. النتيجة هي أن المصاب لا يشعر بألم. احتراق الجلد جعل الجلد لا يشعر باحتراق الجلد!
يقول الشاعر الجميل الذي سرقه الطب من عالم
الشعر د.(رءوف رشدي) في قصيدة قديمة له:
"مأساتك أنك تدرك مأساتك!"
هذا بالضبط عكس ما نتكلم عنه هنا. مأساتك
أنك لا تدرك مأساتك.
كل محدودي الذكاء أو غير المهرة يشعرون
بفوقية شديدة وتعال على الآخرين. الأشخاص الأذكياء يشعرون دومًا بعدم الرضا عن النفس
وبأنهم ليسوا بهذه البراعة، ولربما حسبوا أن ما يقومون به ببساطة هو شيء سهل يقوم به
أي واحد آخر. تذكر الفيلسوف اليوناني الذي قال : "إني أعرف أني لا أعرف".
يقول كونفوشيوس: "المعرفة الحقيقية هي أن تدرك مدى جهلك".
ويقول برتراند راسل: "مصيبة عصرنا هو أن من لا يفهمون يشعرون بالتفوق، بينما الأذكياء
فعلاً تملؤهم الشكوك".
هكذا العالم .. كلما ازداد علمًا وذكاء
ازداد تواضعُا وشكًا في علمه. القصة الشهيرة التي يحكونها عن الخليل بن أحمد الفراهيدي
العبقري، عندما تحرش به طالب علم وقح، ووجه له سؤالاً بدا بسيطًا للطلاب. لكن الخليل
ظل صامتًا ثم قال: "لا أحسن إجابة هذا السؤال!".
لما انصرف الطالب الوقح تصايح طلاب الخليل في غضب: "لو تركت لنا أن نجيب عنه لأفحمناه"، لكنه قال لهم: "لو قال لكم كذا فبم تردون؟".. قالوا : "بكذا" .. قال: "وعندها لو قال لكم كذا فبم تردون؟". صمت الطلاب وقد أدركوا أنهم بلغوا طريقًا مسدودًا فعلاً. العالم الحقيقي كان أقل غرورًا منهم.
مشكلة الجهلة أنهم لا يفتقدون الأذكياء
ولا يهتمون بغيابهم. لهذا أطاحت المقصلة بعنق لافوازييه وأحرق تايكوبراه، ولم ير أحد
مشكلة في هذا. لو لم تسمع عن الأناناس ففيم يضيرك أن يختفي من العالم؟. عندما اقتحم
العامة مقر علماء الحملة الفرنسية دمروا كل شيء وأحرقوا الخرائط، بل أنهم أحرقوا مخطوطات
ثمينة جدًا من القرآن الكريم، فمن الذي رأى هذا كله وتمزق قلبه حسرة؟ الجبرتي طبعًا.
يمكنك أن ترى نماذج لهذا الغرور في كل مكان.
معظم الناس راضون عن أنفسهم فعلاً. ، وإن كان هذا النوع من الاستجواب في الشارع مربكًا
يؤدي لتعطل تفكيرك للحظات طبعًا.
يعتقد معظم الناس أنهم يحبون الفنون التشكيلية،
فيشترون صورة البطة السابحة في ترعة أو الطفل الباكي أو المرأة التي تلثم ثعبانًا،
فإذا اختاروا أثاثًا اختاروا الذي نقشت عليه صورة روميو وجولييت أو المرضعة. هذا هو
الفن عندهم وهم راضون عنه جدًا، ويسخرون منك لو قلت إن هذا نوع رديء من الفن.
كنت آخذ جهاز الكاسيت لمحل متخصص في إصلاح
أجهزة الكاسيت. اكتشفت بعد أسبوعين من المعاناة أن صاحب المحل يعرف أشياء كثيرة عن
كل شيء باستثناء إصلاح الكاسيت. إذن لماذا اخترت هذا النشاط البشري بالذات يا أخي؟
لأنه يجهل قدراته الحقيقية.
هناك محافظ محترم قال مؤخرًا إن إسرائيل لو هاجمتنا بالصواريخ فإن الريح ستحمل الصاروخ لأرضهم. شاهد اللقطة هنا.
هناك بالتأكيد حالات استثنائية . أشخاص
يشعرون أنهم أذكياء وهم أذكياء فعلاً.
رأيت هذا الكليب لتوفيق عكاشة وهو يوضح
أن الله أعطاه درجة عالية من الذكاء، ويعبر عن ذكائه بعبارة عبقرية هي أن (الله منحني
ذكاء لم يستطع منحه لأي واحد من البشر). بصرف النظر عن تحفظي على هذه الجملة العجيبة
(الله سبحانه لا يستطيع) التي أفلتت منه، فإن توفيق عكاشة شديد الذكاء فعلاً. غيّر
تفكير الشعب المصري لعشرين عامًا ونال ما يريد بالضبط ووصل للبرلمان. إن تأثير (دوننج
كروجر) لا ينطبق على هذه الحالة.
الأبنودي لم يسمع عن دوننج وكروجر، لكنه
لخص المبدأ كله بعبارته العبقرية التي يصف بها غرور الضابط وجهله وتوحشه:
"ربنا مديه جهل غانيه
عن كل العلم".
تعليقات
إرسال تعليق