إن الإنسان يحتاج إلى الدفء العاطفي في كل مراحل العمر ولقد يتزايد احتياجه إليه وإلى أنس الروح .. وركون القلب إلى من يحب لديه كلما تقدم به العمر.
عبد الوهاب مطاوع
أكتب إليك هذه الرسالة من المهجر، ولا أرمي من ورائها إلى البحث عن حل لمشكلة، ذلك أن مشكلتي عسيرة الحل .. وليس لها إلا حل واحد تحول دونه أسباب منها الأدبية والاجتماعية والمادية وغير ذلك، ولذا سأدخل إلى الموضوع مباشرة.
تحتفل مصرنا الغالية وكثير من دول العالم بما يسمى عيد الأم المثالية سنويا، ويدفعني ذلك إلى أن أتساءل : هل هذه السيدة التي كافحت من أجل أولادها ألم تكن زوجة قبل أن تكون أما، إذن فهل كانت هذه السيدة المثالية في الأمومة مثالية أيضا في حياتها الزوجية .. وهل يكفي لكي تحصل إحدى السيدات على لقب المثالية أن يقتصر ذلك على دورها كأم فقط أم لابد أن تكون أيضا مثالية في الحياة الزوجية أو هل لابد أن تجمع بصدق وإخلاص بين المثالية في الحياة الزوجية والمثالية في الأمومة.
وإذا أردنا أن نجد هذه الزوجة المثالية فما هي الصفات التي يجب أن تكون عليها؟.. وهل تعتقد أننا سنجد الكثيرات ممن يمكن أن يقال عنهن أنهن زوجات مثاليات؟.. وهل من الأصوب عمل نفس الإجراءات لانتخاب إحداهن لتحوز شرف حمل لقب المثالية حتى تحتذي بها غيرها ولعل ما ورد في هذا الشأن يثير موضوعا آخر علي علاقة وطيدة به وهو موضوع الحب في الحياة الزوجية وفي هذا المجال أرى أن هناك عدة أسئلة تحتاج إلى الإجابة عليها:
أولا: ما هو الحب في الحياة الزوجية ما هو معناه الحقيقي وما هي علاماته؟
ثانيا: لتكون الحياة الزوجية سعيدة ومستقرة من بدايتها وحتى نهايتها هل يجب أن تتبلور عاطفة الحب بوضوح بين الزوج والزوجة على قدر المساواة أم يكفي أن تكون من طرف واحد؟
ثالثا: هل إذا بدأت الحياة الزوجية بالحب المتبادل يمكن أن تستمر كذلك مدى الحياة أم تنهار السعادة والاستقرار عند هبوب أول عاصفة أو مجرد متاعب عابرة لا يخلو منها منزل أو عائلة؟
رابعا: يقال إن الحب يصنع المعجزات.. فهل هذا صحيح في الحياة الزوجية ؟..
إنني أرجو ألا تأخذك الدهشة إذا علمت أن كاتب هذه الرسالة قد جاوز التسعين من العمر وزوجته جاوزت الثمانين من عمرها وأن الحياة الزوجية بينهما قد تعدت نصف القرن, ومع كل ذلك فمازلت أبحث واسأل عن مواصفات الزوجة المثالية وأفتقد الحب وأرجو في ختام هذه الرسالة أن يتسع صدرك وتسمح لكثير من الباحثين الاجتماعيين وخلافهم بأن يدلوا بدلوهم في هذا الشأن!
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لا يدهشني تساؤلك عن الحب وافتقادك له في حياتك الزوجية وقد جاوزت التسعين من العمر وجاوزت زوجتك الثمانين. فالعواطف الحارة لا تقاس بالسن. ولا عمر لها, كما أن الإنسان يحتاج إلى الدفء العاطفي في كل مراحل العمر ولقد يتزايد احتياجه إليه وإلى أنس الروح.. وركون القلب إلى من يحب لديه كلما تقدم به العمر, والأمثلة عديدة على ذلك في الماضي وفي الحاضر.. ومن أشهرها ما رواه الأديب الفرنسي فيكتور هوجو عن العاطفة القوية التي ربطت بين الأديب شاتوبريان .. والسيدة ريكامييه المحبة للثقافة والفنون في القرن التاسع عشر، فلقد ربطت بينهما عاطفة قوية في شبابهما, ثم مضت بهما السنون وأصبح الاثنان شيخين متهدمين, وأصيبت السيدة ريكامييه بالعمى وأصيب شاتوبريان بالشلل, ومع ذلك فلقد ظل يأمر خدمه بأن يحملوه عصر كل يوم إلى بيت حبيبته العمياء ليضعوه إلى جوارها وكان الأسى يملأ قلبي ـ كما قال هوجو ـ كلما رأيت يدها تبحث عن يد الشيخ الذي فقد الإحساس باللمس حتى إذا عثرت عليها ربتت عليها في حنان شديدومن أحب هذه الأمثلة إلى قلبي قصة الروائية الانجليزية كاترين كوكشن وزوجها اللذين عاشا معا متحابين متعاطفين يشد كل منهما أزر الآخر48 عاما, فشهدت حياتهما العديد من المحن والخطوب وفقدت الزوجة في شبابها ثلاثة أطفال رضع أنجبتهم ولم يصمدوا لأنواء الحياة, وأصيبت بالاكتئاب الشديد لمدة 15 عاما ساندها خلالها زوجها المحب وأعانها على مقاومته والشفاء منه.. وشجعها علي احتراف الكتابة الأدبية لكي تنجو من الانهيار العقلي الذي يهددها بالانتحار.. وراح يحثها كل يوم علي أن تكتب وتنشر حتى ذاع اسمها وأصبحت من أشهر الروائيين الانجليز, ووقف إلى جوارها يمرضها ويرعاها في خمس أزمات قلبية شديدة أصيبت بها.. ثم رحلت عن الحياة وهي في الواحدة والتسعين من العمر في يونيو عام 1998 وهو في السابعة والثمانين من العمر.. وفي كامل حيويته, فما أن انتهت مراسم الوداع حتى تدهورت صحته فجأة ونقل إلى المستشفي ورحل عن الحياة بعد18 يوما فقط من رحيل محبوبته.. وقال الأطباء الذين أشرفوا على علاجه إنه لم يمت بأزمة القلبية التي فاجأته.. وإنما بانكسار القلب حزنا على رحيل شريكة الحياة.. وقال الأصدقاء المقربون إنه بعد غيابها عن الحياة لم يعد راغبا في شيء سوى في أن يكون معها حيث ذهبت!
ولا عجب في ذلك لأن الشيخوخة الحقيقية ليست في تقدم العمر واعتلال الصحة, وإنما في الإحساس العميق بأن العمر قد أنتهى ومات الأمل وضاعت كل الغايات, كما أنها أيضا في جفاف الحياة وخلوها من نبض المشاعر ودفء الصحبة, والحق أنك تطرح في رسالتك هذه مفارقة مهمة بالفعل عن الاهتمام بالأم المثالية دون الزوجة المثالية.. مع أن كلا منهما تستحق الاهتمام والتكريم والإشادة, ولقد أجتهد في الإجابة علي تساؤلك فأقول لك إن الزوجة المثالية تكون غالبا أما مثالية لأبنائها بالتبعية وإلا فقدت جانبا أساسيا من جوانب التميز كزوجة.. وعنصرا جوهريا من عناصر إعجاب زوجها بها وسعادته معها.. في حين قد لا تكون الأم المثالية زوجة مثالية بالضرورة لزوجها.. وربما كانت في بعض الأحيان مثالا سلبيا لها في علاقتها بزوجها, ولقد تعوض تعاستها في الحياة الزوجية بتكريس كل عطائها لأبنائها دون زوجها.. ونفس الحال قد يصدق على الأب المثالي لأبنائه, والزوج السيئ لعشيرته في نفس الوقت, وفي كل الأحوال فإن العاطفة القوية ضرورية لتجميل الحياة.. وتيسيرها على شركاء الحياة في كل مراحل العمر.. وما تقوله الكاتبة الأمريكية دوروثي ديكس من أن سعادة الرجل في الزواج تتوقف على مزاج زوجته النفسي والعاطفي أكثر من أي شيء آخر صادق إلى حد كبير, فلقد تتمتع الزوجة كما تقول الكاتبة بكل فضيلة.. لكن كل فضائلها تصبح بلا قيمة إذا كانت سيئة الطبع حادة محبة للنقار جافة المشاعر
فإذا كنت تتساءل بعد ذلك عن المعجزات التي قد يصنعها الحب في الحياة الزوجية فإن أعظمها هي السعادة التي تطيل العمر وتؤخر الشيخوخة وتقاوم عوامل الزمن وتعين الإنسان على احتمال آلام الحياة.
تعليقات
إرسال تعليق