من أحرق مدينتي؟
بحمدالله بعد سنوات من الانتظار تم بث فيلم العزيز المخرج محمد رفعت، والذي ساهمت في العمل به، حول ما حدث في مثل هذا اليوم قبل ٧٠ عاما.
في ٢٦ يناير ١٩٥٢، يوم احترقت القاهرة..
تم حرق نحو ٧٠٠ منشأة. مبان، ومحال، وفنادق، وسينمات، وشركات.
“وسط البلد” بالكامل تقريبا زالت من الوجود.
بحريق القاهرة أصبح معلوما أن النظام قد مات وينتظر الدفن، وهو ما تم بعد ٦ أشهر فقط في يوليو ١٩٥٢ حين تحرك الجيش ليطيح بالملك.
التحقيقات الرسمية وغير الرسمية وجهت الاتهام لمختلف الاتجاهات:
الإنجليز - الملك - الشيوعيين- الإخوان - مصر الفتاة.
لكن في الفيلم نشاهد رواية مختلفة، على لسان شهادة نادرة جدا، لأحد من فعلوها.
دكتور محمد أبو الغيط
عم محمد مسلم، كان عمره وقت الحريق ١٨ عاماً، يسرد بالتفصيل كيف أحضر الوقود وأشعل بيده مقهى جروبي الشهير في ميدان طلعت حرب.
يحكي كيف كانت الجماهير حوله تبحث عن “كبريت” ليشعلوا المباني فمنحهم إياه فاحتفلوا بذلك.
لماذا؟
"محدش غريب، إحنا مصريين.. وكله كان زعلان محروق من اللي حصل في الاسماعيلية”
تسلسل الأحداث واضح لمن أراد ألا يعمي نفسه:
فشلت مفاوضات الجلاء، حكومة الوفد ألغت المعاهدة مع الإنجليز، النحاس باشا دعا العمال المصريين بالمعسكرات البريطانية لمغادرتها، الحركة الفدائية تصاعدت بالقنال.
رد الإنجليز باجتياح الاسماعيلية. رفضت قوة الشرطة ببطولة تسليم المدينة، فأباد الجيش الإنجليزي ٦٠ ضابطا وجنديا قاتلوا بأبسط الأسلحة جيش الإمبراطورية.
كان ذلك يوم ٢٥ يناير ١٩٥٢، ليصبح عيدا للشرطة تخليدا لذكرى أبطالها وأبطال الوطن.
لكن باقي القصة فيها جانب آخر يخص الشرطة أقل شهرة، وبالطبع لا تحتفل به الشرطة حاليا.
وهو أنه في اليوم التالي ٢٦ يناير تمردت قوات الشرطة في القاهرة تضامنا مع زملائهم في مذبحة قسم الإسماعيلية.
تحرك جنود “بلوكات النظام” من ثكناتهم في العباسية وانضموا للمظاهرات الشعبية العارمة.
تبخرت الشرطة تقريبا من المدينة.
أصبحت مصالح الطبقة الحاكمة بلا حراسة .. من يحرس الحرس؟
وبلا اتفاق انطلقت المظاهرات الشعبية رأساً للمنطقة التي تمثل نفوذ الحكام: ميدان التحرير، الذي كان اسمه وقتها ميدان الاسماعيلية، نسبة لمؤسس المنطقة، مُغرق مصر بالديون، الخديو إسماعيل.
حيث منطقة “وسط البلد” هي مركز المنشآت الاقتصادية الأجنبية، وأماكن ترفيه طبقة النصف بالمائة.
يحكي عم محمد:
“ولا مؤامرة ولاحاجة. كنا نجيب كباية وحتة قطن أو شاش، الراجل عبا بنزين وخلص هات يا عم هات … بدينا نحرق في إيه؟ في الشركات الأجنبية .. أنا دخلت على جروبي كان جروبي ده انجليزي”
“محدش يستنى حد بقى، مفيش قائد للعملية اللي يقدر على حاجة يعملها"
......
في أول الفيلم إهداء إلى د.رضوى عاشور رحمها الله.
ليس ذلك تقديرا معنويا فقط – وهي تستحق كل تقدير وأعظم – بل هو اعتراف بفضلها المباشر على هذا الفيلم.
لولاها لم تكن الفكرة لتخطر على بال لمخرج محمد رفعت، الذي تصادق أن قرأ رواية "قطعة من أوروبا"، التي تروي فيها د.رضوى عاشور قصة حريق القاهرة من زاوية الثورة الشعبية.
كان هذا غريبا ويسمع عنه للمرة الأولى.
ذهب محمد إلى ندوة تحضرها د.رضوى وسألها ما المصادر التاريخية التي اعتمدتي عليها؟ فقالت له أنها فقط ربطت الأحداث منطقيا، والفكرة جائتها بينما كانت تراجع أرشيف صور الحريق، لتنتبه لوجود انتقاء بالغ للمنشآت الأجنبية لا المصرية، حتى أنها شاهدت صورة ل٣ محال تجارية متجاورة، احترق المحلان الأجنبيان، وبقي المحل المصري بينهما سليما لم يُمس.
لاحقاً ببحث تاريخي معمق ظهر أن الرافعي أيضا يتبنى نفس الرواية ويسخر من روايات المؤامرة التي تبناها كل معاصروه ومن تلاهم.
......
في جزء لم يتسع له الفيلم من المقابلة أخبرنا عم محمد كيف كانت منطقة وسط البلد بغيضة له ولأمثاله من المهمشين “الناس اللي زي حالاتي بيلبسو جلاليب”. ارتداء الجلباب يعني كارت طرد من المنطقة بالكامل كل لا يؤذي عيون السادة مرتادي فنادق شبرد ومتروبوليتان وفيكتوريا، وسينمات ريفولي وراديو وديانا وميامي.
الأسماء التي لا يستطيع عم محمد قرائتها لو أسعده الحظ بالتسلل لشوارعها.
فجأة ينقلب الهامش متنا.
ومن ذرات الهباء التي لا يراها أحد، بما فيهم من يسعون للتحدث باسمها، تكون عملاق رهيب معدوم الرأس والوجه.
عملاق لم يستدعه أحد، لا يسيطر عليه أحد.
أكبر من كل الجميع. من الإنجليز والملك والوفد والإخوان والشيوعيين. وأكبر بما يفوق الاستيعاب من مجموع ذراته. ورغم أن عقودا سابقة شهدت مظاهرات ضخمة ضد الاحتلال والملك، وحركات مسلحة، لكن لم يخرج العملاق نفسه أبداً إلا في ذلك اليوم فقط، لا قبله ولا بعده.
لم تدع أي جهة سياسية أبدا لحرق وسط البلد، بل إن النحاس باشا وهو من أطلق ذلك الحراك الوطني استغاث بالملك لنشر الجيش لوقف ما يحدث.
لكن العملاق اختار دون اتفاق أن تكون هذه هي ضربته الساحقة.
أطلق الزلزال ثم اختفى.
عاد الهامش هامشا.
ببساطة عادوا لمنازلهم. “الجيش نزل معملش .. يا دوبك نزل كان الشعب بيلم نفسه بقى ويروح”
ولعلهم في اليوم التالي استيقظوا ينظرون لبعضهم ويتساءلون بدهشة: من أحرق القاهرة؟
……
اختفى العملاق بعد الحريق لعقود طويلة حتى ظنه الجميع أسطورة لم توجد أصلا.
ورغم أنه كان ظهر سابقا في ثورة ١٩١٩.
وظهر لاحقاً في ١٨ يناير ١٩٧٧، وسحق أيضا أقسام الشرطة والأمن المركزي وحتى استراحات الرئاسة، لكن السادات سماها مؤامرة من الشيوعيين و"الحرامية"، وعدنا إلى الانكار التام.
"مش معقول!".
ظهر العملاق بعد عقود يوم ٢٨ يناير ٢٠١١، وليس في أي يوم قبله أو بعده.
حسب معلومات رسمية من وزارة الداخلية فإن خسائرها في الثورة كانت سقوط ٣٢ ضحية من أفرادها ضباطا وجنودا، و١٠٧٩ مصابًا، وإحراق ٩٩ قسم شرطة، و٤ آلاف سيارة ومدرعة.
لم يدع أحد أبدا، لا قوى سياسية ولا نشطاء للتوجه للتظاهر أمام الأقسام فضلا عن اقتحامها.
وبالطبع “تدريبات صربيا” على “اللاعنف”! لم تشمل التقنيات الشعبية شبه الحربية المتنوعة التي حدثت.
حين كتبت في ٢٠١١ تدوينة “الفقراء أولا ..” كانت أول صورة لأحد شهداء حي الزاوية الحمراء الشعبي، وهو ما أدى لتواصل أسرته معي، زرتهم وتعرفت على بعض الأهالي هناك، ومنهم سمعت قصتهم الطازجة عن عن استعصاء القسم الذي قتل ٥٥ من شباب الحي (الرقم المذكور بالصحف ٤٠)، حتى سقط بعد استخدام الأهالي آلية اشعال النار في صناديق قمامة معدنية ضخمة واستخدامها ساترا دخانيا لحماية من تقدموا خلفه ببطء خطوة خطوة للوصول للقسم ومعهم أسلحة ارتجالية على رأسها المولوتوف بطبيعة الحال.
يفعل أهالي الزاوية الحمراء ذلك استجابة لدعوة “كلنا خالد سعيد” أو البرادعي أو الإخوان أو أمريكا، أو حتى بخطة اتفقوا عليها، بل الفاعلين غير منتمين لأي جهة سياسية، كانوا في الكنبة قبل ساعات، وأغلبهم الساحق عاد إليها!
والعجيب أن نفس السيناريو تكرر بمختلف الأماكن دون اتفاق مسبق، وعي جمعي مفاجيء، يصعب تفسيره.
ذلك الكيان الضخم الغامض تجاوز الجميع وفعلها ثم اختفى.
روحو بيوتهم، ثم لعلهم استيقظوا باليوم التالي يسألون أنفسهم بدهشة: من أحرق الأقسام؟
…..
للتعامل مع هذه الإشكالية تم استخدام نفس آليات التهرب العتيقة.
توجيه الاتهام لكل طرف آخر: الإخوان، البلطجية، الحزب الوطني، المخابرات، حزب الله، حماس، أمريكا ..الخ الخ.
أو آلية أخرى هي الطمس والإنكار، لم يحدث أصلا.
وللمفارقة فإن هذا الإنكار كما شمل تبرئة الشرطة من قتل المتظاهرين (مثل تبرئة أمين الشرطة بقسم الزاوية محمد السني رغم الشهادات أنه كان يطلق النار من سلاح آلي) فقد شمل أيضا تبرئة الشعب من حرق الأقسام. لم يحاكم أو يسجن أحد أهالي الزاوية بتلك التهمة.
هذه الصفحة لم تحدث.
كانت ثورة سلمية “قادها شباب طاهر” كما قال الرئيس السيسي في خطابه، وأيضا كما يقول كثير من السياسيين بتنوعاتهم.
لكن اختلفت ٢٠١١ عن ١٩٥٢ في ظهور فئة أخرى من المنكرين. من ظنوا أنه يمكن نسبة ما حدث لتخطيط سياسي، فحاولوا عبثا إعادة استجلاب ذلك اليوم أو صناعته عبر دعوات تظاهر أو تنظيمات سياسية. بالطبع نال ذلك فشلا تاما لأسباب كثيرة أبسطها قرب المدى الزمني، فقد برهن التاريخ أن حدثا بهذا الحجم لا يتكرر أبدا في نفس الجيل.
كأن هذه الطاقة الجمعية الرهيبة تتكثف طويلا ثم تنطلق دفعة واحدة، فتعود خامدة قد تحتاج عقودا كاملة للشحن.
أو تفسير محتمل آخر: هو أن العملاق يبهر ويخيف نفسه قبل غيره.
بعد أن أنهيت المقابلة قلت للمخرج محمد رفعت أن هذه أصعب مقابلة صحفية في حياتي. لم يكن ذلك فقط بسبب السن الكبير للضيف، بل لمفارقة عجيبة هي أنه كان يتحدث باسترسال خارج الكاميرا، أما بمجرد وضعها امامه يصمت تماما.
تكرر ذلك عدة مرات.
جربنا أن نفهم هل للأمر علاقة بالكاميرا أم الموضوع. نضع الكاميرا وأطرح عليه أسئلة أخرى فيتحدث باسترسال، أعود للسؤال عن الحريق فيعود لسانه للانعقاد التام!
حفيدته ضحكت ومازحته: “يا جدو انتا خايف من الانجليز والملك؟ مشيو خلاص والله”.
هل كان خائفا من الاعتراف “بجريمته” بعد كل هذه السنوات؟
أم أنه يهرب من الاعتراف أنه هو، لا غيره، وأمثاله من الذرات، كانوا العملاق الذي أرعبه هو شخصيا.
...…
تخبرنا العلوم السياسية أن أغلب الثورات العنيفة تنتج أنظمة سلطوية لا ديمقراطية.
النظام الثوري قد يكون أكثر استبدادا ودموية من النظام الذي تمت الثورة عليه..
الانفجارات ليست رومانسية ولا عقلانية.
الانفجار هو ببساطة انفجار، أي صدمة غير محسوبة تصيب كل محيطها، يضرب خصومه وحلفاؤه ونفسه بذات الوقت.
وهنا أستغرب أيضا الانكار التام لوجود مشاركين من المسجلين خطر، وراغبي السرقة، أو تحرير ذويهم.
الانفجارات ليست انتقائية أيضا.
لذلك حين تنتهي طاقة الغضب الأعمى، تفيق الذرات وترى ما فعلت، لا تصدق، لا تعود لتكرار ما حدث.
بل قد تخاف حتى من ذكراه.
لذلك محاولة تصنيع إعادة نفس اليوم عبث، فضلا عن مخاطره، ومن فكروا بذلك برهنوا على زاوية أخرى لعدم فهم ما حدث، بالضبط كالسلطة التي قررت التهرب إلى شماعات الإخوان وحماس بدلاً من دراسة جادة لعوامل ما حدث، لتجنبه بطريق أكثر امنا للجميع.
يرون اليوم أن تساهل مبارك بسنواته الأخيرة هو ما أسقطه، بينما يغفلون أن موازناته وهوامشه و”تنفيسه” هي ما أبقته ٣٠ عاما دون أي تحدٍ جاد لسلطته.
يظل الحدث أضخم بكثير من الإحاطة به أو فهمه الكامل.
لكني على الأقل أعرف الإجابة على سؤال: من أحرق مدينتي في ٢٠١١؟
يجيب عم محمد:
“الشعب هنا اللي عمل بقى .. الشعب هنا اللي ثار بقى”
قُل أحرقها الذي أحرقها أول مرة…
..
مصدر المقال : Mohamed Aboelgheit
مشاهدة الفيلم:
تعليقات
إرسال تعليق